وصف دقيق لحالة منطقة الشرق الأوسط تختصره فكرة «استقرار الفوضى»، لقد تحولت الأحوال في هذه المنطقة المهمة والاستراتيجية في العالم من وضع «استقرار الدولة» إلى وضع «استقرار الفوضى» عبر عقودٍ متوالية، ولكنه أمرٌ رسخ في المنطقة قبل عقدٍ من الزمان إبان ما كان يعرف بـ«الربيع العربي».
اجتمعت في نشر «استقرار الفوضى» رؤية أوبامية خطيرة للمنطقة مع نظامٍ ثيوقراطي إيراني يعتقد أنه يحكم باسم الله والدين والمذهب، ونظامٍ تركي أصولي يقوده شخصٌ لا يخلو من جنون العظمة، ودولة قطر الصغيرة والباحثة عن دورٍ في التاريخ حتى ولو كان مخزياً، واصطفت مع هذا كله، جماعات أصولية كجماعة الإخوان المسلمين وتنظيمات إرهابية كتنظيم «القاعدة» و«داعش»، وميليشيات مذهبية، وهذه التنظيمات والميليشيات أخذت في التوالد والتكاثر بأسماء جديدة وأعدادٍ غفيرة وهي برسم الاستغلال وخدمة كل خصوم الأوطان وأعداء الدول.
الفكرة الجامعة التي احتشد خلفها خلق حالة «استقرار الفوضى» هي الكفر بـ«الدولة الوطنية الحديثة» لأسبابٍ متعددة، فالنظام الإيراني لا تكفيه «دولة إيران» بل هو مقتنعٌ تماماً بآيديولوجية الإسلام السياسي التي خلقها تحت اسم «الثورة الإسلامية»، وهو يسعى جهده لبسط النفوذ والتوسع وفرض الهيمنة خارج حدوده عبر مبدأ «تصدير الثورة» الذي جاء به الخميني أو «تصدير الميليشيات» الذي اعتمده خامنئي.
النظام التركي هو الآخر تسيطر عليه الآيديولوجية الأصولية والحلم الإردوغاني بالتخلي عن «الدولة التركية الحديثة»، واستعادة «الخلافة العثمانية»، والزعم أن حدود الدولة التركية أصغر من قوة تركيا الحقيقية ومكانتها، فدمّر سوريا بقواته المسلحة والميليشيات التي صنعها على عينه كتنظيم «داعش» و«جبهة النصرة» وبقية الإرهابيين واخترع طريقة «الميليشيات المنقولة جواً»، ليتوسع ويحتل ليبيا وهو من قبل ومن بعد يضرب شمال العراق بطائراته، ويكسر سيادته بقواته المسلحة وها هو يعيث فساداً في شرق المتوسط ويمخر عباب البحر الأبيض اعتداءً واحتلالاً بحثاً عن النفط والغاز والمال، والمرتزقة ليسوا أفراداً أو ميليشياتٍ فحسب بل قد يكونون دولاً.
قطر سعت لتكبير حجمها وتأثيرها عبر التحالف مع كل جماعات الإسلام السياسي وتنظيمات الإرهاب وميليشيات الطائفية، وعبر صرف الأموال السائبة على كل مخربٍ وإرهابيٍ، أما المرتزقة فلا تعريف لهم غير الارتزاق، وإن تسموا بجماعات الإسلام السياسي من إخوان مسلمين وسرورية وتكفيرية تتغير أسماؤهم ويبقى هدفهم واحداً، ألا وهو الوصول للسلطة بالعنف والقتل واستخدام الدين لأغراض حزبية.
وقفت في وجه هذه الموجة من «استقرار الفوضى» و«المرتزقة» الدول العربية الفاعلة والمؤثرة، وعلى رأسها المملكة العربية السعودية وجمهورية مصر العربية والإمارات العربية المتحدة ومن معها من الدول العربية، وفشل المشروع الفوضوي الواسع وبقيت عناصره تجر أذيال الخيبة والهزيمة كسراً لكل القوانين الدولية المستقرة ونشراً للتخريب لوجه التخريب، فكل ما ضعف استقرار الدولة انتشر استقرار الفوضى.
«شرق المتوسط» هو أحد المصطلحات التي انتشرت إبان الحقب الاستعمارية الغربية للتعريف بهذه المنطقة المهمة والاستراتيجية مثله مثل «الشرق الأوسط» و«الشرق الأدنى» ونحوها ولا مشاحة في الاصطلاح، ولكنه تعريف جغرافي للمنطقة من خارجها وليس من داخلها، وممن ساهم في انتشاره أدبياً، كتابٌ وأدباء من أشهرهم عبد الرحمن منيف في روايتيه «شرق المتوسط» و«الآن هنا، أو شرق المتوسط مرة أخرى»، وإن كان يتحدث عن ظلم الأنظمة العربية في حقبٍ سابقة لا عن الصراع الدولي والإقليمي الدائر في هذه المنطقة.
توازنات القوى في المنطقة واهتمام القوى الدولية بها في تغير مستمرٍ، ويكفي تذكر أن ولي العهد السعودي لم يزل يبشّر بـ«أوروبا الجديدة»، ويرى هذا الحلم أحد مشاريعه الخاصة التي يعمل عليها شخصياً ودولة الإمارات صنعت التاريخ باتفاق السلام الذي عقدته مع إسرائيل، ما أفقد تيار «استقرار الفوضى» توازنهم الذي خرج ظاهراً في تصريحاتهم وارتباكهم، من سياسيين ومسؤولين ومثقفين ووسائل إعلام، فمن يصدق أن دولة مثل قطر تستنكر العلاقات مع إسرائيل، وكأن الناس نسيت سياسات قطر بعد الانقلاب السياسي سيئ الذكر منذ ربع قرنٍ تقريباً واستقبال قادة إسرائيل السياسيين والعسكريين والأمنيين، وتجولهم في «قناة الجزيرة» من باب «الرأي والرأي الآخر».
«إيران كونترا» أو «إيران غيت» وصفقة بيع أسلحة أميركية لنظام ملالي إيران منتصف الثمانينات عبر إسرائيل فضيحة كبرى، ومن أهم ما فضحت شعارات النظام الإيراني ضد إسرائيل وأميركا. والنظام التركي بقيادة إردوغان يتمتع بعلاقات استراتيجية حقيقية مع إسرائيل وإردوغان بنفسه يستحضر دائماً دعم ما يسميها «الخلافة العثمانية» لليهود في فلسطين لإنشاء دولتهم هناك وهو مستمرٌ في هذا باسم «الدولة التركية» التي يقودها اليوم، أما قطر فلم يكن لها سابقا مكانٌ في التاريخ كما هو معلوم، وهو أحد أسباب تبنيها لسياسة «التناقضات» و«العناد الاستراتيجي».
«فرنسا» التي تبدي عودة قوية للشأن اللبناني لا يجد رئيسها حرجاً من التواصل مع «حزب الله» اللبناني المسؤول مباشرة عن «تفجير مرفأ بيروت»، وهو قائد الدولة التي رجع منها الخميني لحكم إيران، ولكنه يتبنى في الوقت عينه سياسات قوية أيضاً ضد «البلطجة» التركية في شرق المتوسط، ويدفع بالاتحاد الأوروبي المنقسم نحو إيقاف جموح إردوغان في ممارساتٍ سياسية يمكن فهم أسبابها ودوافعها.
«ميليشيا الحوثي» في اليمن وكل الدمار الذي سببته منذ سيطرتها على «الدولة»، وعشرات الميليشيات الإيرانية في العراق ومثلها في سوريا وميليشيات الإرهاب التركية في ليبيا، وميليشيا «حزب الله» الإرهابي في لبنان، وغيرها من خلايا الإرهاب والتجسس في المنطقة وحول العالم كلها تعمل تحت مظلة تحالف «استقرار الفوضى» بلا حسيب ولا رقيبٍ، سوى من بعض الإجراءات التي تضطر لها بعض الدول الغربية اضطراراً بعد عجزها عن الصمت عن حجم الفضائح والانتهاكات داخل تلك الدول.
صراعات السياسية لا تنتهي، هذا حديث التاريخ ومنطقة وطبيعة البشر والدول، وهو أمرٌ غير مرشحٍ للنهاية وسيستمر في الحاضر والمستقبل، وهو أمرٌ تتحكم في نتائجه عناصر القوة واستراتيجيات الحاضر ورؤى المستقبل.
بغض النظر عن خلافات الديمقراطيين والجمهوريين داخل أميركا، فإنه لم يعد أحد يجادل في كارثية رؤية أوباما للمنطقة، وسعي إدارة ترمب لتدارك مصالح أميركا نفسها ومصالح دول المنطقة ضد النظام الإيراني، وهو ما أحدث تغييراً مستحقاً، وخيارات المستقبل مفتوحة.
*نقلا عن صحيفة الشرق الأوسط